فصل: وُجُوبُ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِجَمِيعِ الْبَشَرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْإِصْرَارَ مِنَ النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى تَصْحِيحِ مَذْهَبِ أَصْحَابِهِ، وَجَعْلِهِ أَوْفَقَ لِلسُّنَّةِ مِنْ غَرِيبِ تَعَصُّبِهِ لَهُمْ بَعْدَ الْعِلْمِ بِعَمَلِ بَعْضِ عُظَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِخِلَافِهِ، وَسَائِرُ مَا نَقَلَهُ عَنِ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْإِمَامِ الطَّبَرِيِّ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ- وَكَذَا أَمْثَالُهَا- لَيْسَ لِلْوُجُوبِ، وَالنَّهْيَ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أُمُورِ الْعَادَاتِ وَالزِّينَةِ وَالتَّجَمُّلِ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ كَوْنِهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السِّنِّ، وَبِاخْتِلَافِ الْعَادَةِ وَالْأَحْوَالِ بَيْنَ النَّاسِ، وَيُعَبِّرُ فِيهَا الذَّوْقُ فِي الزِّينَةِ هُوَ الصَّوَابُ كَمَا قَالَ الطَّبَرِيُّ. وَأَيُّ مَدْخَلٍ لِلتَّحْرِيمِ فِي مِثْلِ هَذَا وَلَا مُحَرَّمَ فِي الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ إِلَّا مَا كَانَ ضَارًّا؟.
وَقَدْ سَبَقَ لَنَا تَفْصِيلٌ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَمْثَالِهَا كَسُنَنِ الْفِطْرَةِ فِي فَتَاوَى الْمَنَارِ، وَمِنْهُ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ «يَكُونُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَخَضِبُونَ بِالسَّوَادِ كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ لَا يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» ضَعِيفٌ مَتْنًا وَسَنَدًا بَلْ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ مِنْ آيَاتِ الْوَضْعِ فِي مَتْنِهِ الْوَعِيدَ بِالْحِرْمَانِ مِنْ رَائِحَةِ الْجَنَّةِ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْعَادَاتِ، وَلَا يُحْرَمُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا الْكَافِرُ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ دَعْ مُخَالَفَتَهُ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ الْكَرِيمِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ابْنُ أَبِي الْمُخَارِقِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَإِنْ قِيلَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ الْجَزَرِيُّ الَّذِي رَوَى عَنْهُ الشَّيْخَانِ قُلْنَا: التَّصْحِيحُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَلاسيما فِي أَمْرٍ مُخَالِفٍ لِأُصُولِ الشَّرْعِ كَهَذَا الْوَعِيدِ، وَإِنَّ ابْنَ حِبَّانَ مَنَعَ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِمَا يَنْفَرِدُ بِهِ عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ كَهَذَا الْحَدِيثِ.
وَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنِ الَّذِينَ اخْتَارُوا عَدَمَ تَغْيِيرِ الشَّيْبِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُغَيِّرْ شَيْبَتَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ خَضَبَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَلَهُ بَابٌ فِي شَمَائِلِ التِّرْمِذِيِّ فَيُرَاجَعُ مَعَ شُرُوحِهِ، وَفِي الْأُصُولِ أَنَّ أَفْعَالَهُ صلى الله عليه وسلم لَا تَدُلُّ مِنْ حَيْثُ هِيَ عَلَى وُجُوبٍ وَلَا نَدْبٍ شَرْعِيٍّ، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ الْحَرَامَ، وَعَدَمُ فِعْلِهِ لِعَادَةٍ مِنْ عَادَاتِ النَّاسِ أَوْلَى بِأَلَّا يَدُلَّ عَلَى حُرْمَتِهَا وَلَا كَرَاهَتِهَا دِينًا، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ نَبَّهَ الْأُمَّةَ إِلَى أَنَّ بَعْضَ أَعْمَالِهِ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا التَّشْرِيعَ كَمَوْقِفِهِ فِي عَرَفَاتٍ وَالْمُزْدَلِفَةِ لِئَلَّا يَلْتَزِمُوهَا تَدَيُّنًا فَيَكُونُوا قَدْ شَرَعُوا مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، عَلَى أَنَّ زَمَنَ تَوَخِّي اتِّبَاعِهِ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ، فِي الْعَادَاتِ، حُبًّا فِيهِ وَتَذَكُّرًا لِحَيَاتِهِ الشَّرِيفَةِ، بِدُونِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الدِّينِ أَوْ يُوهِمَ النَّاسَ ذَلِكَ أَوْ يَتَحَمَّلَ ضَرَرًا لَا يُبَاحُ التَّعَرُّضُ لَهُ شَرْعًا، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ شُهْرَةٍ مَذْمُومَةٍ شَرْعًا- فَجَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُهُ هَذَا مَزِيدَ كَمَالٍ فِي إِيمَانِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بِتَحَرِّي ذَلِكَ يَزِيدُ تَذَكُّرُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحُبُّهُ لَهُ، وَقَدِ انْفَرَدَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- بِتَتَبُّعِ أَعْمَالِهِ وَعَادَاتِهِ وَتَقَلُّبِهِ فِي سَفَرِهِ وَلاسيما سَفَرُ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَتَحَرِّي اتِّبَاعِهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَمْ يَكُنِ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، لِئَلَّا يَعُدَّهُ النَّاسُ تَشْرِيعًا فَيَكُونُ جِنَايَةً عَلَى الدِّينِ، فَالزِّيَادَةُ فِيهِ كَالنَّقْصِ مِنْهُ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ تَكْذِيبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (5: 3).

.وُجُوبُ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِجَمِيعِ الْبَشَرِ:

وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي أَحْكَامِ رِسَالَتِهِ صلى الله عليه وسلم لِلنَّاسِ كَافَّةً أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ إِيمَانَ أَحَدٍ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ عَلَى وَجْهِهَا الصَّحِيحِ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى أُمَّتِهِ- أَيْ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ- وَهُمُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، أَنْ يُبَلِّغُوا دَعْوَتَهُ لِجَمِيعِ النَّاسِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُحَرِّكُ إِلَى النَّظَرِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِمُونَ بِذَلِكَ مِنْهُمْ جَمَاعَاتٍ تَتَعَاوَنُ عَلَيْهِ إِذْ لَا يُغْنِي الْأَفْرَادُ غَنَاءَ الْجَمَاعَاتِ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى أَصْلِ الْإِيمَانِ الْإِجْمَالِيِّ- الَّذِي هُوَ بَدْءُ الدَّعْوَةِ- أَمْ إِلَى الشَّرَائِعِ التَّفْصِيلِيَّةِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3: 104) وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مَا بَسَطَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ كَوْنِ الرَّاجِحِ الْمُخْتَارِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} تَجْرِيدٌ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لِيَكُنْ لِي مِنْكَ صَدِيقٌ- أَيْ لِتَكُنْ صَدِيقًا لِي، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا دُعَاةً إِلَى الْخَيْرِ الْأَعْظَمِ الَّذِي هَدَاهُمُ اللهُ إِلَيْهِ، وَيَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ كَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَتَأَلَّفَ لِلدَّعْوَةِ جَمَاعَاتٌ تُعِدُّ لَهَا عُدَّتَهَا، وَأَنَّ هَذَا مُتَعَيِّنٌ عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ جَعْلُ {مِنْكُمْ} لِلتَّبْعِيضِ إِلَخْ. [رَاجِعْ ص22- 438 ط الْهَيْئَةِ].
وَتَبْلِيغُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْأَفْرَادِ وَالْأَقْوَامِ، فَقَدْ كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ فِي عَصْرِ الْبَعْثَةِ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَخَالِقُ الْخَلْقِ وَمُدَبِّرُ أُمُورِهِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُشْرِكُونَ بِعِبَادَتِهِ غَيْرَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْأَصْنَامِ، زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَيَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَهُ، فَيَقْضِي لَهُمْ حَاجَتَهُمْ مِنْ جَلْبِ خَيْرٍ وَدَفْعِ ضُرٍّ بِوَسَاطَتِهِمْ، وَكَانُوا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَالْحَيَاةَ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُنْكِرُونَ الرِّسَالَةَ وَالْوَحْيَ مِنَ اللهِ لِبَعْضِ الْبَشَرِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُوهُمْ أَوَّلًا إِلَى التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ عُنْوَانُ الْإِسْلَامِ، وَبَابُ الدُّخُولِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ الرَّكْنُ الْأَعْظَمُ، ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ يُقِيمُ لَهُمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَهُوَ إِفْرَادُ اللهِ وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ، وَعَلَى حَقِّيَّةِ الرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مَعَ دَفْعِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الشُّبُهَاتِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَرَاهُ مُفَصَّلًا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي هِيَ أَجْمَعُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِذَلِكَ، وَكَذَا فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَيَلِي ذَلِكَ دَعَوْتُهُمْ إِلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِهَا الْكُلِّيَّةِ فِي الْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ وَالْحَلَّالِ وَالْحَرَامِ، ثُمَّ إِلَى الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَكَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَبِالْوَحْيِ وَالرُّسُلِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَلَكِنْ دَخَلَتْ عَلَى أَكْثَرِهِمُ الْوَثَنِيَّةُ الْقَدِيمَةُ بِجَمِيعِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا وَلَاسِيَّمَا النَّصَارَى الَّذِينَ أَقَامُوا عَقِيدَتَهُمْ عَلَى أَسَاسِ التَّثْلِيثِ الْمَعْرُوفِ عَنْ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْهُنُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَزْعُمُونَ أَنَّ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ مَحْصُورَةٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْعَثَ اللهُ رَسُولًا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَانَتِ التَّوْرَاةُ قَدْ فُقِدَتْ فِي غَزْوَةِ الْبَابِلِيِّينَ لَهُمْ، ثُمَّ كَتَبَ بَعْضُهُمْ لَهُمْ تَوْرَاةً بَعْدَ عِدَّةِ قُرُونٍ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَارِيخٍ دِينِيٍّ مُشْتَمِلٍ عَلَى قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى عَهْدِ مُوسَى وَهَارُونَ، وَعَلَى مَا تَذَكَّرَ الْكَاتِبُ مِنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مَعَ تَحْرِيفٍ وَأَغْلَاطٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ الْإِنْجِيلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ وَعْظٍ وَتَعْلِيمٍ وَبِشَارَةٍ قَدِ ادَّعَاهُ كَثِيرُونَ فَظَهَرَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ بَعْدَهُ زُهَاءَ سَبْعِينَ إِنْجِيلًا اخْتَارَ الْجُمْهُورُ الَّذِي جَمَعَ شَمْلَهُ الْمَلِكُ قُسْطَنْطِينُ- الْوَثَنِيُّ الَّذِي تَنَصَّرَ سِيَاسَةً- أَرْبَعَةً مِنْهَا فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْخِلَافِ وَالتَّعَارُضِ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِثَلَاثَةِ قُرُونٍ، وَفَشَا فِيهِمْ مُنْذُ عَهْدِ هَذَا الْمَلِكِ الْوَثَنِيِّ الْمُتَنَصِّرِ عِبَادَةُ السَّيِّدَةِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ وَغَيْرِهَا مِنَ الصَّالِحِينَ حَتَّى صَارَتِ الْكَنَائِسُ النَّصْرَانِيَّةُ كَهَيَاكِلِ الْأَوْثَانِ مَمْلُوءَةً بِالصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمَعْبُودَةِ- فَكَانَتْ دَعْوَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَحُجَجُهُ عَلَيْهِمُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ تَخْتَلِفُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ عَنْ دَعْوَةِ الْمُشْرِكِينَ الْأَصْلِيِّينَ، كَمَا تَرَاهُ مَبْسُوطًا فِي السُّوَرِ الطِّوَالِ الْأَرْبَعِ الْأُولَى: الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ- فَفِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَقَرَةِ مِنَ الْقُرْآنِ: يُوَجِّهُ أَكْثَرَ الْكَلَامِ إِلَى الْيَهُودِ، وَذُكِرَتْ فِيهِ النَّصَارَى بِالْعَرَضِ- وَأَوَائِلُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ نَزَلَتْ فِي حِجَاجِ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَفِي أَوَاخِرِ النِّسَاءِ كَلَامٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْثَرُهُ فِي النَّصَارَى. وَجُلُّ سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً وَالنَّصَارَى خَاصَّةً.
وَأَمَّا هَذَا الْعَصْرُ فَقَدْ كَثُرَتْ فِيهِ الْمَلَاحِدَةُ وَالْمُعَطِّلَةُ، وَتَجَدَّدَتْ لِلْكُفَّارِ عَلَى اخْتِلَافِ فِرَقِهِمْ شُبُهَاتٌ جَدِيدَةٌ يَتَوَكَّئُونَ فِيهَا عَلَى مَسَائِلَ مِنَ الْعُلُومِ الْعَصْرِيَّةِ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْأَقْدَمِينَ، وَحَدَثَتْ لِلنَّاسِ آرَاءٌ وَمَذَاهِبُ فِي الْحَيَاةِ فِيهَا الْحَسَنُ وَالْقَبِيحُ، وَالنَّافِعُ وَالضَّارُّ، بَلْ مِنْهَا مَا قَدْ يُفْضِي إِلَى فَسَادِ الْعَالَمِ، وَتَقْوِيضِ دَعَائِمِ الْعُمْرَانِ، وَمَثَارُ ذَلِكَ كُلِّهِ ذُيُوعُ التَّعَالِيمِ الْمَادِّيَّةِ، وَفَوْضَى الْآدَابِ، وَتَدَهْوُرُ الْأَخْلَاقِ، وَتَغَلُّبُ الرَّذَائِلِ عَلَى الْفَضَائِلِ، وَقَدْ ظَهَرَ هَذَا الْفَسَادُ فِي أَفْظَعِ صُورَةٍ فِي حَرْبِ الْمَدَنِيَّةِ الْكُبْرَى وَمَا وَلَّدَتْهُ مِنْ تَفَاقُمِ شَرَهِ الْمُسْتَعْمِرِينَ وَشَرِّهِمْ وَفَظَائِعِهِمْ فِي الشَّرْقِ، وَانْتِشَارِ الْبَلْشَفِيَّةِ وَمَفَاسِدِهِمْ فِي الْبِلَادِ الرُّوسِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَبَثِّ دَعْوَتِهَا فِي الْعَالَمِ- فَصَارَ مِنَ الْوَاجِبِ مُرَاعَاةُ ذَلِكَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ وَالِاحْتِجَاجِ لَهُ، وَرَدِّ الشُّبَهِ الَّتِي تُوَجَّهُ إِلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا (آيَ 3: 104) حَاجَةَ الدَّاعِي إِلَى الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الزَّمَانِ إِلَى أَحَدَ عَشَرَ عِلْمًا مِنْهَا السِّيَاسَةُ وَلُغَاتُ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ تُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الدَّعْوَةُ، وَأَشَرْتُ هُنَالِكَ إِلَى مَقَالَةٍ كُنْتُ كَتَبْتُهَا قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْمَنَارِ فِي الدَّعْوَةِ وَطَرِيقِهَا وَآدَابِهَا.

.اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ لُغَةُ الْإِسْلَامِ:

وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي بَحْثِ اتِّبَاعِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ لُغَتِهِ الَّتِي هِيَ لُغَةُ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ، وَأَمَرَ جَمِيعَ مَنِ اتَّبَعَهُ وَدَانَ بِدِينِهِ أَنْ يَتَعَبَّدَهُ بِهِ، وَأَنْ يَتْلُوَهُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ مَعَ التَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِيهِ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِتْقَانِ لُغَتِهِ وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ، فَالْمُسْلِمُونَ يُبَلِّغُونَ الدَّعْوَةَ لِكُلِّ قَوْمٍ بِلُغَتِهِمْ، حَتَّى إِذَا مَا هَدَى اللهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ عَلَّمُوهُ أَحْكَامَهُ وَلُغَتَهُ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ الْخُلَفَاءُ الْفَاتِحُونَ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ وَمَا بَعْدَهَا، إِلَى أَنْ تَغَلَّبَتِ الْأَعَاجِمُ عَلَى الْعَرَبِ، وَسَلَبُوهُمُ الْمُلْكَ فَوَقَفَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَضَعُفَ الْعِلْمُ بِالْعَرَبِيَّةِ إِلَى أَنْ قَضَى عَلَيْهَا التُّرْكُ وَحَرَّمَتْهَا حُكُومَتُهُمْ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، لِتَقْطَعَ كُلَّ صِلَةٍ لَهُمْ بِدِينِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَبَاحِثَ فِي مَجَلَّةِ الْمَنَارِ تَفْصِيلًا.
وَمِمَّا نَشَرْنَاهُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ مَقَالٌ فِي لُغَةِ الْإِسْلَامِ نَشَرْنَاهُ أَوَّلًا فِي بَعْضِ الْجَرَائِدِ الْيَوْمِيَّةِ، وَفِيهِ تَصْرِيحٌ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه بِوُجُوبِ تَعَلُّمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِي رِسَالَتِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ إِلَّا بِلِسَانِهِمْ ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا الْحُجَّةُ فِي أَنَّ كِتَابَ اللهِ مَحْضٌ بِلِسَانِ الْعَرَبِ لَا يَخْلِطُهُ فِيهِ غَيْرُهُ؟ فَالْحُجَّةُ فِيهِ كِتَابُ اللهِ، قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (14: 4).
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ الرُّسُلَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يُرْسَلُونَ إِلَى قَوْمِهِمْ خَاصَّةً، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً؟ قِيلَ: فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بُعِثَ بِلِسَانِ قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَيَكُونُ عَلَى النَّاسِ كَافَّةً أَنْ يَتَعَلَّمُوا لِسَانَهُ، أَوْ مَا يُطِيقُونَهُ مِنْهُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بُعِثَ بِأَلْسِنَتِهِمْ؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ بُعِثَ بِلِسَانِ قَوْمِهِ خَاصَّةً دُونَ أَلْسِنَةِ الْعَجَمِ؟؟.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فَالدّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَإِذَا كَانَتِ الْأَلْسِنَةُ مُخْتَلِفَةً بِمَا لَا يَفْهَمُهُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ فَلابد أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ تَبَعًا لِبَعْضٍ، أَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ فِي اللِّسَانِ الْمُتَّبَعِ عَلَى التَّابِعِ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِالْفَضْلِ فِي اللِّسَانِ مَنْ لِسَانُهُ لِسَانُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَجُوزُ- وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ- أَنْ يَكُونَ أَهْلُ لِسَانِهِ أَتْبَاعًا لِأَهْلِ لِسَانٍ غَيْرِ لِسَانِهِ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ، بَلْ كُلُّ لِسَانٍ تَبَعٌ لِلِسَانِهِ وَكُلُّ أَهْلِ دِينٍ قَبْلَهُ فَعَلَيْهِمُ اتِّبَاعُ دِينِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ. قَالَ اللهُ عَزَّ ذِكْرُهُ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكِ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (26: 192- 195) وَقَالَ: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا حُكْمًا عَرَبِيًّا} (13: 37) وَقَالَ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (42: 7) وَقَالَ تَعَالَى: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (43: 1- 3).
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فَأَقَامَ حُجَّتَهُ بِأَنَّ كِتَابَهُ عَرَبِيٌّ فِي كُلِّ آيَةٍ ذَكَرْنَاهَا، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ نَفَى جَلَّ وَعَزَّ عَنْهُ كُلَّ لِسَانٍ غَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِ فِي آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (16: 103) وَقَالَ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (41: 44).
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَعَرَّفَنَا قَدْرَ نِعَمِهِ بِمَا خَصَّنَا بِهِ مِنْ مَكَانَةٍ فَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ...} (9: 128) الْآيَةَ، وَقَالَ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} (62: 2) الْآيَةَ وَكَانَ مِمَّا عَرَّفَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهَ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنْعَامِهِ أَنْ قَالَ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} (43: 44) فَخَصَّ قَوْمَهُ بِالذِّكْرِ مَعَهُ بِكِتَابِهِ وَقَالَ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (26: 214) وَقَالَ: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (42: 7) وَأُمُّ الْقُرَى مَكَّةُ وَهِيَ بَلَدُهُ وَبَلَدُ قَوْمِهِ، فَجَعَلَهُمْ فِي كِتَابِهِ خَاصَّةً، وَأَدْخَلَهُمْ مَعَ الْمُنْذَرِينَ عَامَّةً، وَقَضَى أَنْ يُنْذَرُوا بِلِسَانِهِمُ الْعَرَبِيِّ لِسَانِ قَوْمِهِ مِنْهُمْ خَاصَّةً.